الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
إذا تبين هذا فنقول: القرآن تنزيل من حكيم حميد، وهو كتاب أحكمت آياته ثم فصلت. ولو أن رجلًا من بني آدم له علم، أو حكمة، أو خطبة، أو قصيدة، أو مصنف، فهذب ألفاظ ذلك وأتي فيه بمثل هذا التغاير، لعلم أنه قصد في ذلك حكمة، وأنه لم يخالف بين الألفاظ مع اتحاد المعنى سدي. فكيف بكلام رب العالمين، وأحكم الحاكمين؟ لا سيما وقد قال فيه: فنقول: الفعل المضارع هو في اللغة يتناول الزمن الدائم سوى الماضي، فيعم الحاضر والمستقبل، كما قال سِيبَويه: وبنوه لِمَا مضي من / الزمان، ولما هو دائم لم ينقطع، ولما لم يأت ـ بمعنى الماضي، والمضارع وفعل الأمر. فجعل المضارع لما هو من الزمان دائمًا لم ينقطع، وقد يتناول الحاضر والمستقبل. فقوله: {لَا أَعْبُدُ}، يتناول نفي عبادته لمعبودهم في الزمان الحاضر والزمان المستقبل. وقوله: {مَا تَعْبُدُونَ}، يتناول ما يعبدونه في الحاضر والمستقبل. كلاهما مضارع. وقال في الجملة الثانية عن نفسه: فقوله: وقوله: وقولك: [ما هو بفاعل هذا أبدًا] أبلغ من قولك: [ما يفعله أبدًا]. فإنه نفي عن الذات صدور هذا الفعل عنها، بخلاف قولك: [ما يفعل هذا]، فإنه لا ينفي إمكانه وجوازه منه. ولا يدل على أنه لا يصلح له ولا ينبغي له، بخلاف قوله: [ما هو فاعلا، وما هو بفاعل]، كما في قوله: ولا يقال: الجملة الاسمية ترك الثبـوت، ونفي ذلك لا يقتضي نفي / العارض. فـإن هـذه الجملة في معنى الفعلية نفي؛لكونها عملت عمل الفعل.لكنها دلت على اتصاف الذات بهذا، فنفت عن الذت أن يعرض لها هذا الفعل تنزيهًا للذات، ونفيًا لقبولها لذلك. فالأول نفي الفعل في الماضي والمستقبل، والثاني نفي قبوله في الماضي مع الحاضر والمستقبل. فقوله: ففي هذا من عموم عبادتهم في الماضي والمستقبل، ومن قوة براءته وامتناعه وعدم قبوله لهذه العبادة في جميع الأزمان، ما ليس في الجملة الأولى. تلك تضمنت نفي الفعل في الزمـان غير الماضي، وهـذه تضمنت نفي إمكانـه وقبـولـه لما كـان معبـودًا لهم ولو في بعض الزمـان الماضي فقـط. والتقـدير: مـا عبدتمـوه ولو في بعض الأزمـان الماضيـة فـأنـا لا يمكنني ولا يسوغ لي أن أعبده أبدًا. ولكن لم ينف إلا ما يكون منه في الحاضر والمستقبل؛ لأن المقصود براءته هو في الحال والاستقبال. وهذه السورة يؤمر بها كل مسلم وإن كان قد أشرك بالله قبل قراءتها. / فهـو يتبرأ في الحاضـر والمستقبل مما يعبده المشركون في أي زمان كان، وينفي جواز عبادته لمعبـودهم،ويبين أن مثـل هـذا لا يكون ولا يصلح ولا يسوغ. فهو ينفي جوازه شـرعًا ووقـوعًا. فـإن مثـل هـذا الكلام لا يقال إلا فيما يستقبح من الأفعال، كمن دعي إلى ظلم أو فاحشة فقـال: [أنا أفعـل هـذا؟ مـا أنا بفاعـل هذا أبدًا]. فهو أبلغ من قوله: [لا أفعـله أبدًا]. وهـذا كقـولـه: فهو يتضمن نفي الفعل ـ بغضًا فيه وكراهة له ـ بخلاف قوله: [لا أفعل]. فقد يتركه الإنسان ـ وهو يحبه ـ لغرض آخر. فإذا قال: [ما أنا عابد ما عبدتم]، دل على البغض والكراهة والمقت لمعبودهم ولعبادتهم إياه. وهذه هي البراءة. ولهذا تستعمل في ضد الولاية فيقال: تول فلانًا، وتبرأ من فلان. كما قال تعالى: وأمـا قولـه عـن الكفار: وهذا كما يقال: قل يا أيها المحاربون، والمخاصمون، والمقاتلون، والمعادون. فهو خطاب لهم ما داموا متصفين بهذه الصفة. وما دام الكافر كافرًا، فإنه لا يعبد الله، وإنما يعبد الشيطان، سواء كان متظاهرًا، أو غير متظاهر به كاليهود. فإن اليهود لا يعبدون الله، وإنما يعبدون الشيطان؛ لأن عبادة الله إنما تكون بما شرع وأمر. وهم ـ وإن زعموا أنهم يعبدونه ـ فتلك الأعمال المبدلة والمنهي عنها هو يكرهها ويبغضها وينهى عنها، فليست عبادة. فكل كافر بمحمد، لا يعبد ما يعبده محمد ما دام كافرًا. والفعل المضارع يتناول ما هو دائم لا ينقطع. فهو ما دام كافرًا، لا يعبد معبود محمد صلى الله عليه وسلم، لا في الحاضر، ولا في المستقبل. ولم يقل عنهم: [ولا تعبدون ما أعبد]، بل ذكر الجملة الاسمية ليبين أن نفس نفوسكم الخبيثة الكافرة بريئة من عبادة إله محمد، لا يمكن أن تعبده ما دامت كافرة؛ إذ لا تكون عابدته إلا بأن تعبده / وحده بما أمر به على لسان محمد. ومن كان كافرًا بمحمد، لا يكون عمله عبادة الله قط. وتبرئتهم من عبادة الله، جاءت بلفظ واحد، بجملة اسمية تقتضي براءة ذواتهم من عبادة الله، لم تقتصر على نفي الفعل. ولم يحتج أن يقول فيهم: [ولا أنتم عابدون ما عبدت]، كما قال في نفسه: أحدهما: أن كل مؤمن فهو مأمور بقراءة هذه السورة، ومنهم من كان معبوده غير الله. فلو قال: [ولا أنتم عابدون ما عبدت]، لقالوا: بل نحن نعبد ما كنت تعبد لما كنت مشركًا، بخلاف ما إذا قال: [ولا أنتم عابدون ما أعبده في هذا الوقت]. ولم يقل: [ما أنا عابد له] إذ نفسه قد لا تكون عابدة له مطلقًا. وقد يجوز أن يعبد الواحد من الناس غير الله في المستقبل، فلا يكون من لم يعبد ما يعبده في المستقبل مذمومًا، بخلاف المؤمن الذي يخاطب بهذه السورة غيره، فإنه حين يقولها ما يعبد إلا الله. فهو يقول للكفار: [ولا أنتم عابدون ما أعبده الآن]. وذكر النفي عن الكفار في الجملتين لتقارب كل جملة جملة. فلما قال: / ثم لما زاد النفي بنفي جواز ذلك وبراءة النفس منه ـ ذكر ما يدل على كراهته له وقبحه، ونفي أن يعبد شيئًا مما عبدوه ولو في بعض الزمان ـ قال: ولو اقتصر في تبريهم من عبادة الله على الجملة الأولي، لم يكن فيها تبرئة لهم في هذه الحال الثانية. فبرأهم من معبوده حين البراءة الأولي الخاصة، وحين البراءة الثانية العامة القاطعة. وهم لم يختلف حالهم في الحالين، بل هم فيهما لا يعبدون ما يعبد. فلم يكن في تغيير العبارة فائدة، وإنما غيرت العبارة في حقه وحق المؤمنين لتغيير المعنىين. والإنسان يقوي يقينه، وإخلاصه، وتوحيده، وبراءته من الشرك وأهله، وبغضه لما يعبدون ولعبادتهم، فرفع درجته في ذلك. وهو في ذلك يقول للكفار: [لا تعبدون ما أعبد] في هذه الحال ـ سواء كانوا هم قد زاد كفرهم وبغضهم له أو لم يزد. / فالمقصـود بالسورة: أن المؤمن يتبرأ منهم، ويخبرهم أنهم برآء منه، وتبريه منهم إنشاء ينشئه، كما ينشئ المتكلم بالشهادتين. وهذا يزيد وينقص. ويقوي ويضعف. وأما هم، فهو يخبر ببراءتهم منه في هذه الحال، لا ينشئ شيئًا لم يكن فيهم. فخطاب المؤمن عن حالهم خبر عن حالهم، والخبر مطابق للمخبر عنه، فلم يتغير لفظ خبره عنهم، إذا كانوا في كل وقت من أوقات عبادته الله لا يعبدون ما يعبد. فهذا اللفظ الخبري مطابق لحالهم في جميع الأوقات ـ زادوا أو نقصوا. ولا يجوز للمؤمن أن ينشئ زيادة في كفرهم، فإن ذلك محرم. بل هو مأمور بدعائهم إلى الإيمان. وليس له أن ينقصهم في خبره عما هم متصفون به. فلم يكن في الإخبار عن حالهم زيادة فيما هم عليه ولا نقص. فلم يغير لفظ الخبر في الحالين بلفظ واحد. وأما المؤمن نفسه فهو مأمور بأن ينشئ قوة الإخلاص الله وحده، وعبادته وحده، والبراءة من كل معبود ـ سواه ـ وعبادته، وبراءته منه ومن عابديه. وقوله: وأنتم ـ مع ذلك ـ ما أنتم عابدون ما أعبد، بل أنتم بريؤون مما أعبد. وأنا بريء مما تعبدون، مأمور بالبراءة منه، وطالب زيادة البراءة منه، ومجتهد في ذلك. وأنا أخبر عنكم بأنكم بريؤون مما أعبد، إما لكونكم تأمرون بذلك، وإما لكونكم تعبدونه، فلا أخبر به، فإنه كذب. وإما لكونكم تجتهدون في البراءة وتبالغون فيها، فبها تختلف فيه أحوالكم. / وأنا لا يسوغ لي أن أذكر ما يزيل براءتكم، ولا أكذب عليكم، فإنكم تنقصون منها إذا تبرأت، بل التبري منها داع وباعث لمن له عقل أن ينظر في سبب هذه البراءة، لا سيما في حق الرسول الذي خوطب أولًا بقوله: {قُلْ} فلينظر العاقل في سبب براءتي من الشرك وما أنتم عليه، واختياري به عداوتكم، والصبر على أذاكم. واحتمالي هذه المكاره العظيمة. بعد ما كنتم تعظموني غاية التعظيم، وتصفوني بالأمانة، وتسموني [الأمين] وتفضلوني على غيري، ونسبي فيكم أفضل نسب وتعرفون ما جعل الله في من العقل والمعرفة ومكارم الأخلاق وحسن المقاصد وطلب العدل والإحسان، وأني لا أختار لأحد منكم سوءًا، ولا أريد أن أصيب أحدًا بِشَرٍّ. فاختياري للبراءة مما تعبدون، وإظهاري لسبهم وشتمهم، أهو سُدي ليس له موجب أوجبه؟ فانظروا في ذلك. ففي السورة دعاء وبعث للكفار إلى طلب الحق ومعرفته، مع ما فيها من كمال البراءة منهم. ومعانيها كثيرة شريفة يطول وصفها. وقوله: فإن [ما] في اللغة إما لما لا يعلم، ولصفات ما يعلم، كما في قوله: وأيضًا، فقوله: وكون الرب يتصف بما تتصف به الأصنام من عدم العلم ما لا / يجوز عليه، ولا تصح المقابلة في مثل ذلك، بل المقصود ذكر الصفات والإخبار بمعبود الرسول والمؤمنين ليتبرأ من معبدوهم ويبرئهم من معبوده. وإذا قال اليهود: نحن نقصد عبادة الله، كانوا كاذبين، سواء عرفوا أنهم كاذبون أو لم يعرفوا، كما يقول النصارى: إنا نعبد الله وحده وما نحن بمشركين، وهم كاذبون؛ لأنهم لو أرادوا عبادته لعبدوه بما أمر به، وهو الشرع، لا بالمنسوخ المبدل. وأيضًا، فالرب الذي يزعمون أنهم يقصدون عبادته، هو عندهم رب لم ينزل الإنجيل ولا القرآن، ولا أرسل المسيح ولا محمدًا. بل هو عند بعضهم فقير، وعند بعضهم بخيل، وعند بعضهم عاجز، وعند بعضهم لا يقدر أن يغير ما شرعه. وعند جميعهم أنه أيد الكاذبين المفترين عليه، الذين يزعمون أنهم رسله وليسوا رسله، بل هم كاذبون سحرة. قد أيدهم ونصرهم، ونصر أتباعهم على أوليائه المؤمنين؛ لأنهم عند أنفسهم أولياؤه دون الناس. فالرب الذي يعبدونه هو ـ دائمًا ـ ينصر أعداءه. فهم يعبدون هذا الرب، والرسول والمؤمنون لا يعبدون هذا المعبود الذي تعبده اليهود. فهو منزه عما وصفت به اليهود معبودها / من جهة كونه معبودًا لهم ـ منزه عن هذه الإضافة. فليس هو معبودًا لليهود، وإنما في جبلاتهم صفات ليست هي صفاته زينها لهم الشيطان. فهم يقصدون عبادة المتصف بتلك الصفات، وإنما هو الشيطان. فالرسول والمؤمنون لا يعبدون شيئًا تعبده اليهود ـ وإن كانوا يعبدون من يعبدونه، وهذا مما يظهر به فائدة ما ذكرنا. وعلى هذا فقوله: فهذا الذي ذكره من أن اليهود لا تشرك كما أشركت العرب والنصارى صحيح، لكنهم مع هذا لا يعبدون الله، بل يستكبرون عن عبادته، ويعبدون الشيطان، لا يعبدون الله. ومن قال: إن اليهود / تعبد الله فقد غلط غلطًا قبيحًا. فكل من عبد الله، كان سعيدًا من أهل الجنة، وكان من عباد الله الصالحين. قال تعالى: وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: (إنك تأتي قومًا هم أهل كتاب، فأول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله) ـ وفي رواية: (فادعهم إلى عبادة الله فإذا عرفوا الله فأعلمهم...) فلا يعبد إلا الله بعد أن أرسل محمدًا وعرفت رسالته وبلغت؛ ولهذا اتفق العلماء على أن أعمالهم حابطة. ولو عبدوا الله لم تحبط أعمالهم. فإن الله لا يظلم أحدًا. وقبل إرسال محمد، إنما كان يعبد الله من عبده بما أمر به. فأما من ترك عبادته بما أمر به واتبع هواه، فهو لا يعبد الله، إنما يعبد الشيطان، ويعبد الطاغوت. وقد أخبر الله عن اليهود بأنهم عبدوا الطاغوت، وأنه لعنهم وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت. وهـو اسم جنس يدخل فيه الشيطان، والوثن، والكهان، / والدرهم، والدينار، وغير ذلك. وقال تعالى: وهـم أشـد عداوة للمـؤمنين من النصارى، وكفرهم أغلظ،وهم مغضوب عليهم. ولهـذا قيـل:إنهم تحت النصارى في النار. واليهود إن لم يعبـدوا المسـيح، فقـد افتروا عليه وعلى أمه بما هو أعظم من كفر النصارى. ولهذا جعل الله النصارى فوقهم إلى يوم القيامة. فالنصارى مشركون يعبدون الله ويشركون به. وأما اليهود فلا يعبدون الله، بل هم معطلون لعبادته، مستكبرون عنها ـ كلما جاءهم رسول بما لا تهوي أنفسهم استكبروا ففريقًا كذبوا وفريقًا يقتلون. بل هم متبعون أهواءهم، عابدون للشيطان. فالنبي والمؤمنون لا يعبدون ما تعبده اليهود. وهم ـ وإن وصفوا الله ببعض ما يستحقه ـ فهم يصفونه بما هو منزه عنه. وليس في قلوبهم عبادة له وحده. فإن ذلك لا يكون إلا لمن عبده بما أمره به. والسورة لم يقل فيها: [يا أيها المشركون] حتى يقال فيها: إنها / إنما تناولت من أشرك. بل قال: والنصارى ـ مع شركهم ـ لهم عبادات كثيرة، واليهود من أقل الأمم عبادة وأبعدهم عن العبادة الله وحده. لكن قد يعرفون مالا تعرفه النصارى، لكن بلا عبادة وعمل بالعلم. فهم مغضوب عليهم، وأولئك ضالون. وكلاهما قد برأ الله منهم رسوله والمؤمنين. وفي هـذه الأمـة مـن يعرف مـا لا تعرفه اليهود والنصارى بلا عمل بالعلم، ففيهم شـبه، كما قال سُفيان بن عُيَيْنة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد مـن عبادنا كـان فيـه شـبه مـن النصارى. بل قد قال أبو هريرة: ما أقرب الليلة من البارحـة، أنتم أشبه الناس ببني إسـرائيل. بـل في الحـديث الصحيح: (لتتبعن سـنن من كـان قبلكم شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه). قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: (فمن؟) وفي رواية: فارس والروم؟ قال: (ومَنِ الناس إلا أولئك؟). وقـال: (افترقت اليهود على إحدي وسبعين فرقة، وافترقت / النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة). وقد بُسِط هذا في غير هذا الموضع، وبُيِّن فيه حال الفرقة الناجية الذين هم على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ومما يوضح ما تقدم أن قوله: والمعبود هو الإله، فكأنه قال:لا أعبد إلهكم، ولا تعبدون إلهي،كما ذكر الله في قصة يعقـوب.قـال تعالى: وإنما يعبده من كان على ملتهم، كما قال يوسف: وإذا كان كذلك، فاليهود والنصارى ليسوا على ملة إبراهيم، وإذا لم يكونوا على ملته، لم يكونوا يعبدون إله إبراهيم. فإن من عبد إله إبراهيم كان على ملته، قال تعالى: وهذا بعد مبعث محمد مما لا ريب فيه، فإنه هو الذي بعث بملة إبراهيم. والطائفتان كانتا خارجتين عنها بما وقع منهم من التبديل. قال تعالى: وقال: وقوله: أحدهما ـ وهو قول الفراء وغيره من نحاة الكوفة واختيار ابن قتيبة وغيره، وهو معنى قول أكثر السلف ـ: أن النفس هي التي سفهت. فإن [سفه] فعل لازم لا يتعدي، لكن المعنى: إلا من كان سفيهًا فجعل الفعل له ونصب النفس على التمييز لا النكرة، كقوله: وأما الكوفيون فعرفوا هذا وهذا. قال الفراء: نصب النفس على التشبيه بالتفسير، كما يقال: ضقت بالأمر ذرعـًا، معناه: ضاق ذرعي به. ومثله: فهذه شواهد عرفها الفراء من كلام العرب. ومثله قوله: غُبِنَ فلان رأيه، وبطر عيشه. ومثل هذا قوله: {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58]، أي: بطرت نفس المعيشة. وهذا معنى قول يَمَان بن رباب: حمق رأيه ونفسه، وهو معنى قول ابن السائب: ضل من قبل نفسه، وقول / أبي روق: عجز رأيه عن نفسه. والبصريون لم يعرفوا ذلك. فمنهم من قال: جهل نفسه، كما قاله ابن كَيسان، والزجّاج. قال: لأن من عبد غير الله فقد جهل نفسه، لأنه لم يعلم خالقها. وهذا الذي قالوه ضعيف. فإنه إن قيل: إن المعنى صحيح، فهو إنما قال: [سفه]، و[سفـه] فعـل لازم، ليس بمتعدٍ، و[جهل] فعل متعد. وليس في كلام العرب [سفهت كذا] البتة بمعنى: جهلتـه. بل قالوا: سَفُه ـ بالضم ـ سفاهة، أي صار سفيهًا، وسفِه ـ بالكسـر ـ أي: حصل منـه سفه، كما قالوا في [فقُه وفقِه]. ونقل بعضهم: سفهت الشرب إذا أكثرت منـه. وهـو يوافق مـا حكاه الفـراء، أي: صار شـربه سفيهـًا، فسفه شربه لما جاوز الحد. وقال الأخفش، ويونس: نصب بإسقاط الخافض، أي: سفه في نفسه. وقولهم [بإسقاط الخافض]، ليس هو أصلا فيعتبر به، ولكن قد تنزع حروف الجر في مواضع مسموعة، فيتعدي الفعل بنفسـه. وإن كان مقيسًا في بعض الصور، فـ [سفه] ليس من هذا، لا يقال:سفهـت أمر الله، ولا ديـن الإسلام، بمعنى: جهلته، أي: سفهت فيه. وإنما يوصف بالسفه وينصب على التمـييز مـا خـص بـه، / مثل نفسه أو شربه، ونحو ذلك. والمقصود أن كل من رغب عن ملة إبراهيم فهو سفيه. قال أبو العالية: رغبت اليهود والنصارى عن ملة إبراهيم، وابتدعوا اليهودية والنصرانية، وليست من الله، وتركوا دين إبراهيم. وكذلك قال قتادة: بدلوا دين الأنبياء واتبعوا المنسوخ. فأما موسي والمسيح، ومن اتبعهما، فهم على ملة إبراهيم متبعون له، وهو إمامهم. وهذا معنى قوله: فإن قيل: فالمشرك يعبد الله وغيره بدليل قـول الخليـل: قيل: هذا قول المشركين، كما تقول اليهود والنصارى: نحن نعبد الله. فهم يظنون أن عبادته مع الشرك به عبادة وهم كاذبون في هذا. وأما قول الخليل، ففيه قولان؛ قال طائفة: إنه استثناء منقطع، وقال عبد الرحمن بن زيد: كانوا يعبدون الله مع آلهتهم. وعلى هذا، فهذا لفظ مقيد. فإنـه قال: {مَا تَعْبُدُونَ}. فسماه عبادة إذا عرف المراد، لكن ليست هي العبادة التي هي عنــد الله عبـادة. فـإنـه كما قـال تعالى: (أنـا أغني الشركاء عـن الشرك. من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء، وهو كله للذي أشرك). وهـذا كقوله تعالى: / وقوله: ومما يوضح هـذا قولـه: ولو كان من عبد الله وعبد معه غيره عابدًا له، لكانت عبادته نوعين؛ عبادة إشراك، وعبادة إخلاص. وإذا كان كذلك لم يكن / قوله: {إِلَـهًا وَاحِدًا} بدلًا؛ لأن هذا كل من كل، ليس هو بدل بعض من كل. فَعُلِم أن إلهه وإله آبائه لا يكون إلا إلهًا واحدًا. والوجه الثاني:قوله:{إِلَـهًا وَاحِدًا} نصب على الحال، لكنها حال لازمة فإنه لا يكون إلا إلهًا واحدًا.كقوله: فـإن قيل: المشرك يجعل معه آلهة أخرى، فهو يعبد في حال ليس هو فيها الواحد، قيل: هـذا غلط منشؤه أن لفـظ [الإلـه] يراد بـه المستحـق للإلهيـة، ويراد به ما اتخذه الناس إلهًا وإن لم يكن إلهًا في نفس الأمر، بل هي أسماء سموها هم وآباؤهم. فتلك ليست في نفسها آلهـة، وإنمـا هـي آلهـة في أنفـس العابـدين. فإلهيتهـا أمر قـدره المشركون، وجعلوه في أنفسهم من غير أن يكون مطابقًا للخارج، كالذي يجعل من ليس بعالم عالمًا، ومن ليس بحي حيـًا، ومـن ليس بصـادق ولا عـدل صـادقًا وعـدلًا فيقال: هذا عندك صادق، وعادل، وعالـم، وتلـك اعتقادات غير مطابقة، وأقوال كاذبة غير لائقة. / ولهذا يجعل ـ سبحانه ـ ذلك من باب الافتراء والكذب كما قال أصحاب الكهف: وقال هود: وإذا كانـت إلهية مـا سوى الله أمـرًا مختلقـًا يوجـد فـي الـذهن واللسان لا وجود له في الأعيان. هـو مـن بـاب الكـذب والاعتقـاد الباطـل الذي ليس بمطابـق. ومـا عنـد عابديها ـ من الحب والخوف والرجاء لهـا ـ تابـع لذلك الاعتقـاد الباطـل. كمـن اعتقـد فـي شخص أنه صادق فصدقه فيما يقـول، وبني على إخباره أعمالًا كثـيرة. فلما تبين كـذبه، ظهر فساد تلك الأعمـال كأتبـاع مسيلمـة،والأسـود، وغيرهمـا من أصحـاب الزوايا والتُّرهَات، وما يشـرعونـه لأتباعهـم مما لـم يـأذن به الله، بخلاف الصادق والصدق. / ولهذا كانت كلمة التوحيد والشرك أعظم الظلم. قال ابن مسعود: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: (أن تجعل لله ندًا وهو خلقك) فنفس تألههم لها، وعبادتهم إياها، وتعظيمها، وحبها، ودعائها، واعتقادها آلهة، والخبر عنها بأنها آلهة موجود، كما كان اعتقاد الكذابين موجودًا. وأما نفس اتصافها بالإلهية، فمفقود، كاتصاف مسيلمة بالنبوة. فهنا حالان: حال للعابد. وحال للمعبود. فأما العابدون فكلهم في قلوبهم عبادة وتأله لمن عبدوه. وأما المعبودون، فالرحمن له الإلهية، وما سواه لا إلهية له، بل هو ميت لا يملك لعابديه ضرًا ولا نفعا. فقوله: {نَعْبُدُ إِلَـهَكَ... إِلَـهًا وَاحِدًا} [البقرة: 133]، إذا قيل: إنه منصوب على الحال، فإما أن يكون حالًا من الفاعل العابد، أو من المفعول المعبود. فالأول: نعبده في حال كوننا مخلصين لا نعبد إلا إياه. والثاني نعبده في الحال اللازمة له، وهو أنه إله واحد، فنعبده مخلصين معترفين له بأنه الإله وحده دون ما سواه. فإن كان التقدير هذا الثاني، امتنع أن يكون المشرك عابدًا له. فإنه لا يعبده في هذه الحال، وهو -سبحانه- ليست له حال أخرى نعبده فيها. وإن كان التقدير الأول، فقد يمكن أن نعبده في حال أخرى نتخذ معه آلهة أخرى في أنفسنا. لكن قوله: {إِلَـهًا وَاحِدًا} دليل على أنها حال من المعبود، بخلاف ما إذا قيل: نعبده مخلصين له الدين، فإن هذه حال من الفاعل. ولهذا يأتي هذا في القرآن كثيرًا، كقوله: والحال - وإن كانت صفة للمفعول فهي - أيضًا - حال للفاعل. فإنهم قالوا: نعبده في هذه الحال. فلزم أن عبادتهم له ليست في غير هذا الحال. وبين أن قوله: {نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ... إِلَـهًا وَاحِدًا} [البقرة: 133]، هي حال متعلقة بالفاعل والمفعول جميعًا - بالعابد والمعبود. فإن العامل فيها - المتعلق بها - العبادة، وهي فعل العابد، والذي يقال له المفعول في العربية هو المعبود. كما قيل في الجملة: فالظرف والحال -هنا- كلمة وليست مفردًا؛ ولهذا اشتبه عليهم.فإن المفرد لا يمكن أن يكون في اللفظ صفة لهذا وهذا.فإذا قلت:ضربت زيدًا قاعدًا، فالقعود حال للفاعل أو المفعول. وإذا قلت:ضربته والناس / قعود، فليس هذه الحال من أحدهما دون الآخر، بل هي مقارنة للضرب المتعلق بها، كأنه قال: ضربته في زمان قعود الناس. فهو ظرف للفعل المتعلق بالفاعل والمفعول، بخلاف ما إذا قلت: ضربته في حال قعودي أو قعوده، فهذا يختلف. والآية فيها {إِلَـهًا وَاحِدًا}. فهذه حال من المعبود بلا ريب. فلزم أنهم إنما عبدوه في حال كونه إلهًا واحدًا، وهذه لازمة له. وإذا قيل: المراد في حال كونه معبودًا واحدًا لا نتخذ معه معبودًا آخر، فهذه حال ليست لازمة، لكنه صفة للعابدين، لا له. قيل: هذا ليس فيه مدح له، ولا وصف له بأنه يستحق الإلهية. لكن فيها وصفهم فقط. وأيضًا. فقوله:{إِلَـهًا وَاحِدًا}، كقوله: ولو أرادوا ذلك المعني لقالوا: نعبده مخلصين له الدين. وهذا المعني قد ذكروه في الجملة الثانية، وهي قولهم: ولهذا قال آمرًا للمؤمنين أن يقولوا: ثم قال: وفي هذه الآيات معان جليلة ليس هذا موضع استيفائها.
|